ثغرات "طوفان الأقصى"- دعوة لتصحيح المسار واستثمار الفرصة الفلسطينية.

المؤلف: د. أحمد العطاونة11.21.2025
ثغرات "طوفان الأقصى"- دعوة لتصحيح المسار واستثمار الفرصة الفلسطينية.

إن عملية "طوفان الأقصى"، التي انطلقت في السابع من أكتوبر عام ألفين وثلاثة وعشرين ميلادية، جديرة بكل كلمات الثناء والتقدير التي قيلت وتُقال، وكل ما كُتب ويكتب عنها، فهي بحق محطة تاريخية فاصلة. فلو توفرت الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة لاستثمار مكاسبها، لأحدثت تحولًا جذريًا في المشهد السياسي للعديد من الدول العربية والإسلامية في المنطقة، ولأذنت ببداية حقبة جديدة تتلاشى فيها مظاهر الهيمنة والاستعمار والغطرسة التي طال أمدها في ربوع المنطقة.

لقد استطاع الشعب الفلسطيني، بتلك العملية البطولية، أن يعيد تقديم صورته المشرقة وقدرته الفائقة على الصمود الأسطوري، وأن يسطر ملاحم مقاومة فريدة واستثنائية، كاشفًا بذلك عن الطبيعة المتجذرة للاحتلال الإسرائيلي، ومُظهرًا مواطن الضعف والهشاشة المتراكمة التي يعاني منها على مختلف الأصعدة.

وبعد مرور ما يربو على مئة يوم على هذه المعركة الفاصلة، لزامًا علينا تسليط الضوء على جملة من النقاط الشائكة التي صاحبت هذه الملحمة، والتي تستدعي تحركًا عاجلًا لسدّ الثغرات ومعالجة أوجه القصور، ليس فقط من أجل دعم المقاومة الفلسطينية الباسلة والنضال المشروع للشعب الفلسطيني الأبي، بل أيضًا استجابة لنداء الضمير الإنساني الحي والقيم الدينية والقومية الراسخة، من أجل وضع حد لهذه المجزرة المروعة والإبادة الجماعية الشنيعة التي يرتكبها جيش فاشي تجرد من كل معاني الإنسانية، وتجاوز كافة القوانين والأعراف الدولية، وتحدى ولا يزال يتحدى كل المؤسسات والمنظمات الدولية. وأيضًا كمحاولة جادة للتذكير بالواجب المقدس من جهة، وبالفرصة السانحة التي لا تزال قائمة للاستثمار الأمثل في هذه المعركة الاستثنائية من جهة أخرى.

ولعل من أبرز النقاط التي تستدعي الوقوف عندها في المشهد المصاحب لهذا الموقف البطولي في قطاع غزة الصامد ما يلي:

  • أولًا: غياب الانخراط الفاعل لكافة المكونات الفلسطينية في هذه المعركة المصيرية، ونخص بالذكر هنا الضفة الغربية المحتلة والأراضي المحتلة عام 1948، بالإضافة إلى جموع الشعب الفلسطيني المنتشر في الشتات. فما زالت مساهمة هذه المكونات محدودة الأثر ولا ترقى إلى المستوى المأمول الذي يجعلها تساهم مساهمة مباشرة وفاعلة في تحقيق إنجاز وطني فلسطيني نوعي يذكر.

فعلى الرغم من أن طول أمد المعركة ينبغي أن يشكل حافزًا قويًا ومبررًا موضوعيًا لتلك المكونات كي تنخرط في المعركة بكل ما أوتيت من قوة، وبغضّ النظر عن الآليات والوسائل والأدوات المستخدمة، وبما يتناسب ويتلاءم مع طبيعة كل منطقة جغرافية وكل مكوّن فلسطيني على حدة.

إلا أنه من غير المقبول بتاتًا أن يبقى دورها قاصرًا على التضامن الخجول والمساهمة المعنوية الباهتة، بل يجب أن يكون هنالك انخراط واضح ومباشر ومؤثر في هذه المعركة المفصلية. ولعل هذه من أبرز الأزمات المزمنة التي عانى منها النضال الوطني الفلسطيني على مدى عقود طويلة، حيث لم تتمكن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، ولو لمرة واحدة، من حشد وتجنيد كل مكونات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في معركة موحدة ومشتركة في مواجهة هذا الاحتلال الغاشم.

لذا، يجب على الفلسطينيين أن يضعوا حدًا لهذه الأزمة المتفاقمة، وأن يخططوا جديًا لخوض مواجهاتهم القادمة بشكل موحد ومتكامل ومنسق، في معركة شاملة لتحرير أرضهم واستعادة استقلالهم المسلوب، ومواجهة هذا العدو الفاشي بكل ما يملكون من قوة وعزيمة.

  • ثانيًا: الأداء السياسي المتذبذب للقيادة الرسمية الفلسطينية، "منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية". فمما يعانيه هذا الصراع، هو وجود فجوة عميقة في الأداء السياسي، حيث إن القيادة السياسية الفلسطينية الرسمية -والمقصود هنا قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وما لديها من سلك دبلوماسي عريض وممثلين ومؤسسات عديدة- تبدو غير منسجمة بتاتًا مع مجريات المعركة، ولا تتعامل معها بالقدر الذي تستحقه من الاهتمام والتقدير.

ففي الوقت الذي يخوض فيه الشعب الفلسطيني معركة بطولية غير مسبوقة في تاريخه الحديث بكل ما يملك من بسالة نادرة وصمود أسطوري، وتبدع حركات المقاومة الفلسطينية في الميدان، تظهر القيادة السياسية عجزًا فاضحًا في الأداء، ينمّ عن انفصال تام عن الواقع المرير، وانعزال شبه كامل عن نبض الشارع الفلسطيني. ولعل هذه المعضلة الكبيرة من الأسباب الرئيسية التي تطيل أمد هذا العدوان الغاشم، وتزيد من حجم المجازر المروعة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني الصامد.

إلا أن الوقت لا يزال متاحًا والضرورة ملحة للتحرك الفوري، ولتقديم أداء سياسي يرقى لمستوى هذه المواجهة الشرسة، فلمّ الشمل الفلسطيني أولًا، والتحرك العاجل على المستوى العربي والإسلامي والدولي للجم هذا العدوان الآثم ابتداءً، ومن ثم للاستثمار فيه سياسيًا بما يخدم التطلعات المشروعة والحقوق الوطنية الفلسطينية الأصيلة- هو واجب الساعة الذي لا يحتمل التأخير.

  • ثالثًا: الانقسام الفلسطيني المرير: فالانقسام الفلسطيني يمثل ثغرة كبيرة في المشهد العام، ونقطة ضعف واضحة يستغلها الاحتلال الإسرائيلي أبشع استغلال، وتسانده في ذلك الولايات المتحدة الأميركية بكل ما أوتيت من قوة، والتي استثمرت في هذا الموضوع بالذات منذ بداية الحرب، وهي تبذل جهودًا مضنية، وتتحدث بشكل علني وصريح حول ضرورة الحفاظ على الهدوء التام في الضفة الغربية، ونزع فتيل أي تحرك قد يؤدي إلى تأجيج الأوضاع المتوترة فيها. وهذا يعني، بطريقة أو بأخرى، العمل الدؤوب على ضمان استمرار هذا الانقسام الفلسطيني البغيض.

فالانقسام الذي اتخذ أشكالًا جغرافية وسياسية وميدانية متعددة، وتحوّل إلى انقسام حقيقي وواقعي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين حركتي حماس وفتح، أو بين المقاومة الشريفة والقيادة السياسية، هو أمر جلل ينبغي الالتفات إليه جيدًا والعمل على تجاوزه في أسرع وقت ممكن.

فإذا كان الفلسطينيون، وهم يرزحون تحت وطأة هذه الدماء الغزيرة وهذه المجازر التي لا تتوقف، لا يستطيعون تجاوز انقساماتهم العميقة، فمتى يا ترى سيقدرون على ذلك؟ وإذا كانت كل هذه التضحيات الجسام وهذا الصمود الأسطوري وهذه البطولة النادرة وهذا الالتفاف العالمي غير المسبوق حول القضية الفلسطينية العادلة، لا تدفع القيادات الفلسطينية إلى تجاوز خلافاتهم وترتيب البيت الفلسطيني من الداخل وإنجاز الوحدة الوطنية المنشودة، فما الذي يمكنه فعل ذلك إذن؟ وأين دور القوى والفصائل والنقابات والاتحادات الفلسطينية من هذا الأمر المصيري؟ ولماذا لم نشهد حتى الآن أي تحرك جاد وضغط حقيقي لإنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وللمساهمة الفعالة في حماية الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة ومنجزاته المحتملة من هذه المعركة الشرسة المستمرة؟.

  • رابعًا: غياب الظهير العربي والإسلامي الرسمي، والضعف المخزي في التفاعل الشعبي: لا يمكن لأحد أن يتصور حجم الألم والمرارة التي يشعر بها الفلسطيني، وبالذات في قطاع غزة المحاصر، نتيجة الخذلان المخزي والضعف الشديد في المواقف العربية والإسلامية الرسمية تجاه ما يحدث من جرائم بشعة.

وعلى الرغم مما يظهره الفلسطينيون بشكل عام، وقادة المقاومة الفلسطينية بشكل خاص، من ترفع عن الجراح العميقة وحرص شديد في التعامل مع الأشقاء العرب والمسلمين، حيث يواصلون مناشدتهم وشكرهم والإشادة ببعض مواقفهم على ضعفها وهزالها، إلا أن حجم ألمهم وشعورهم بالمرارة والخذلان كبير جدًا ولا يمكن وصفه. فلم يكن أحد يتصور أن يصل الضعف والهوان إلى حد أن أمة يزيد تعدادها على ملياري إنسان، وتمتلك من الإمكانات الهائلة والمقدرات الضخمة ما لا يحصى، تعجز عن مد يد العون والمساعدة لشعب مضطهد أعزل، هو بالأساس يقاتل نيابة عنهم ويدافع عن مقدساتهم الإسلامية والعربية.

فهذه الأمة العظيمة تعجز عن تقديم الدعم، على الأقل، في الشق الإنساني الضروري منه. لقد استبشر البعض خيرًا بانعقاد اجتماع منظمة التعاون الإسلامي، ولكن سرعان ما خابت الآمال وتبددت الأحلام. فهذا العجز الفاضح الذي يظهره العالم العربي والإسلامي، إذا ما استمر على حاله، فسيعني أن العالم العربي والإسلامي مقبل على حقبة جديدة ومظلمة من الهيمنة الأميركية المطلقة والغطرسة الصهيونية البغيضة، قد تستمر لعقود طويلة قادمة.

  • النقطة الخامسة والأخيرة: عدم وجود دعم عسكري حقيقي وملموس للمقاومة الفلسطينية الباسلة، فالاختلال يبدو هائلاً في موازين القوى العسكرية؛ نظرًا للانحياز الغربي الأعمى والمطلق للاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وعدم جرأة أي من الدول العربية والإسلامية، أو حتى القوى الدولية المؤمنة بالحق الفلسطيني العادل والمؤمنة أيضًا بالحقوق والقيم الإنسانية النبيلة كالحرية والعدالة والمساواة والحق في تقرير المصير والحق الأصيل في مقاومة الاستعمار بكل أشكاله، على تقديم دعم حقيقي ومباشر ومادي للمقاومة الفلسطينية، بما يساعد في ردم هذه الفجوة الهائلة والكبيرة في الإمكانات والقدرات العسكرية المتاحة.

إن التوازن النسبي القائم في الميدان اليوم، على الرغم من الفارق الشاسع والكبير في القدرات العسكرية، يعود بالدرجة الأولى إلى البطولة النادرة والصمود الأسطوري والثبات الراسخ الذي يتحلى به الشعب الفلسطيني الصامد، ولعل العامل الأهم الذي أحدث فارقًا كبيرًا ورجّح كفة الميزان لصالح المقاومة الفلسطينية هو الإنسان الفلسطيني المقاوم والاستثنائي، الذي يقاتل بكل بسالة وشجاعة وبأقل الإمكانات المادية والعسكرية المتاحة، ويلحق كل هذه الخسائر الفادحة بجيش مدجج بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة ومتفوق عسكريًا بشكل كبير- ومدعوم بكل قوة من أعتى القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي دشنت جسورًا جوية وبحرية لإمداده المستمر بالذخيرة والسلاح- ويحرمه في نهاية المطاف من إنجاز أي من أهدافه المعلنة والخفية في هذه الحرب الشعواء. فكيف سيكون الحال لو دُعمت المقاومة عسكريًا وأُسندت بقوة من بعض أشقائها المخلصين!

وباختصار، فإن استمرار وجود هذه الثغرات وغيرها يشكل خطرًا محدقًا ليس فقط على قطاع غزة الصامد، شعبًا ومقاومةً، بل وعلى مستقبل القضية الفلسطينية برمتها وبكل مكوناتها المختلفة، وإن استمرار مواقف الأطراف المختلفة -التي تم ذكرها آنفًا- على ما هي عليه الآن، سيسجل في صفحات التاريخ على أنه تخاذل مشين وتخلٍّ صارخ عن المسؤولية الدينية والوطنية والقومية والأخلاقية في لحظة تاريخية فارقة ومفصلية، وسينعكس بلا شك بشكل سلبي على تلك الأطراف ومستقبلها، في المديين المتوسط والبعيد، سواء بتفاعل عوامل داخلية أو خارجية مرتبطة بدول الهيمنة والنفوذ في العالم.

إن حديث الاحتلال الإسرائيلي عن المرحلة الثالثة من هذه الحرب الشعواء، والتي من المتوقع أن تستمر لأشهر قادمة أو ربما أكثر، يفتح المجال واسعًا أمام انخراط الفلسطينيين في كل مكان في موجة مقاومة شاملة وطويلة الأمد ضد الاحتلال، تشبه إلى حد كبير الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى المباركة"، والتي يمكن أن تقود في نهاية المطاف إلى إلحاق الهزيمة النكراء بالاحتلال الإسرائيلي وإنجاز بعض من الحقوق السياسية الفلسطينية المشروعة، وأن تدفع المجتمع الدولي بأسره إلى الإقرار الصريح والواضح بضرورة إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن لأي طرف في العالم أن يتجاوز الفلسطينيين وقضيتهم العادلة.

كما أنها قد تشكل فرصة ذهبية لكل الشعوب والدول العربية والإسلامية لكي تعيد حساباتها من جديد وتعدل مواقفها المترددة بما ينسجم بالكامل مع واجباتها الدينية والقومية والإنسانية، وبما يخدم مصالحها العليا ومستقبلها المشرق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة